تطور بعثات الحج في قطر.. من الإبل إلى الطائرات
Al Sharq
وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق الحج: 27.. أمر الله نبيه إبراهيم -عليه السلام- بأن يؤذن للحج، ليأتي الناس من فجاج
وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق الحج: 27.. أمر الله نبيه إبراهيم -عليه السلام- بأن يؤذن للحج، ليأتي الناس من فجاج بعيدة، من مشارق الأرض ومغاربها، ويحجوا إلى بيت الله الحرام، الذي رفع قواعده أبو الأنبياء، لتستمر ممارسة عبادة الحج منذ بناء البيت ودعوة إبراهيم عليه السلام، حتى جاء الإسلام وفرضه الله تعالى بقوله: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا آل عمران: 97، فيهب من استطاع من المسلمين سبيلا كل عام من أرجاء المعمورة لتأدية فريضة الركن الخامس امتثالا لأمر الله تعالى، ورغبة في رضاه ورحمته ورضوانه، متحملين عناء السفر ومشقته وأخطاره، تاركين وراءهم الأهل والأبناء والأحباب والأموال، في معية الله وحفظه، متوكلين على الله متوجهين إلى بيته في رحلة كانت تستغرق قديما شهورا للوصول إلى مكة المكرمة، لكنها مع التطور الحاضر تستغرق ساعات نظرا لوسائل النقل التي تطورت من السير على الأقدام وركوب الإبل وغيرها من الدواب إلى السيارات وأخيرا الطائرات. رحلة الحج قديما كانت محفوفة بالمخاطر، حيث يواجه الحجيج أهوال السفر عبر الطرق الوعرة غير المعبدة وغير الآمنة، حتى إنه كان يقال في شأنهم: "الذاهب مفقود والعائد مولود"، فكان الحاج يودع أهله، ويكتب وصيته نظرا لشدة الخطر الذي كان يحيق برحلة الحجاج. وفي قطر، مثل باقي الأمصار الإسلامية، كابد الحجاج وعثاء السفر، ووحشة الطريق من أجل أداء الركن الخامس للإسلام، وطلب العلم والمعرفة، والالتقاء بالمسلمين من كل الأقطار. وفي هذا السياق، يوضح الباحث التراثي علي الفياض في تصريح لوكالة الأنباء القطرية /قنا/، أن الحج كان رحلة شاقة في الماضي، وكان الطريق محفوفا بالمخاطر، وكانت وسيلة المواصلات الوحيدة في تلك الأيام الخوالي هي الجمال، وكانت تكتنف رحلة الحج صعوبات كثيرة، ومتاعب لا حصر لها، وكانت المخاطر تتربص بالحجاج على الدوام، ومن ذلك أعمال النهب والسلب التي يقوم بها قطاع الطرق، فضلا عن أنهم كانوا يواجهون مخاطر الجوع والعطش في سفرهم، ويتعرضون لبعض الكوارث الطبيعية، ومنها العواصف والبرد القارس، والأمطار الغزيرة، والسيول الجارفة، فضلا عن مخاطر الوحوش والسباع الضارية المتربصة بهم لذلك كان أهل الحجاج يودعونهم وهم غير واثقين من عودتهم، فقد يعود الحاج وقد يهلك في الطريق. ويشير الفياض إلى أن وسيلة السفر كانت هي الإبل، مستندا إلى بعض المصادر التاريخية التي ذكرت أن قوافل الحجاج كانت عليها حراسات مشددة، ولها طرق محددة تسلكها، وعند مرور القافلة بأطراف قبيلة معينة، يتم تحصيل رسوم تسمى "الإتاوة" نظير الحماية من قطاع الطرق، كما أن هنالك اتفاقيات ومعاهدات تبرمها بعض القبائل بينها تضمن المعاملة بالمثل. بدوره، أكد الأستاذ محمد همام فكري، مستشار التراث والكتب النادرة بمؤسسة قطر، ومؤلف كتاب /الحج من قطر قديما.. ذكريات عطرة/، في تصريح مماثل لـ /قنا/، أنه رصد في مؤلفه جوانب من الذكريات كما رواها كبار السن، والتي تتجدد مع اقتراب موسم الحج كل عام.. بعضها يتعلق بالاستعدادات التي كانت تسبق رحلة الحج، وبعضها يتعلق بذكريات الطريق ومتاعبه، والصعاب التي كانوا يواجهونها أثناء الطريق ذهابا وإيابا، إلى أن يعودوا سالمين إلى أوطانهم وأهلهم. ونوه بأن الحج كان بالمطايا، حيث يدفع الحاج للمقاول الأجرة نظير رحلته، ويقوم المقاول بترتيبات السفر، وتحديد موعد الانطلاق، وتبدأ قوافل الحج في التجمع بساحة قريبة من مدينة الدوحة، بالقرب من الديوان الأميري عند قلعة الكوت، وهو ما أيده الباحث التراثي علي الفياض إذ يتوافد الحجيج من أطراف البلاد، ليدخلوا روحانيات الفريضة، وبعد صلاة الفجر إلى قبيل صلاة الظهر (الضحى) يكونون قد استعدوا تماما، ويتسلم المقاول زمام القيادة، ليعلن انطلاق الرحلة برا في اتجاه "سلوى".
وذكر محمد همام فكري، مستشار التراث والكتب النادرة بمؤسسة قطر، أنه بعد تجمع القوافل، وأثناء الطريق يلتحق بهم العديد من قوافل الحجيج الأخرى، وبعضها كان للميسورين والوجهاء من أبناء قطر، وتستمر القافلة في مسيرها إلى أن تصل إلى "أبو سمرة" على الحدود السعودية، وكان بعض المودعين يصاحب الحجيج حتى نقطة التفتيش، وعندما يعبر الحجيج الحدود يعود المودعون إلى الدوحة. وفي "أبو سمرة" تقوم السلطات السعودية بالتحقق من شخصيات الحجيج وبطاقات التطعيم الصحي، كما يقومون بتفتيش الحجيج، إلا النساء لا يفتشن تكريما لهن، كما كن يحملن تصاريح سفر، لكنها كانت تخلو من صورهن، حيث كان يكتب مكان الصورة /محجبة/، وظل هذا معمولا به إلى أوائل الثمانينيات. وأشار محمد همام فكري إلى أن المقاولين (أصحاب الحملات) كانوا على دراية بأنسب الطرق المؤدية للأماكن المقدسة، ويعرفون أي الطرق يسلكون، وعادة ما يكون توفر آبار المياه والكلأ من أهم المحددات التي يفضلونها، وبناء على ذلك يختارون الطرق المناسبة، فضلا عن توفر الأمن فيها، لافتا إلى أن السير بالمطايا يستلزم دراية كبيرة بالطرق وتجنب مخاطر عديدة قد يواجهونها، منها خطر قطاع الطرق، وكانت الاستراحات تنتشر على الطريق لتقدم لهم الأطعمة والمشروبات. وبين أن قوافل الحجيج كانت تسلك طريق البريد أو ما كان يعرف بدرب الساعي، وفي الصيف عادة كانت تمشي ليلا لصعوبة السير تحت أشعة الشمس، ويستريح الحجاج عند مواقع المياه، فيمشون ثلاثة أيام ويستريحون يوما أو يومين، وهكذا، وكانت نقطة التجمع في الإحساء، حيث يغيرون المطايا، معددا بعض الصعوبات التي كان يلاقيها الحجاج في طريقهم إلى بيت الله الحرام، حيث يمرض أناس في الطريق، وآخرون يموتون، وغيرهم يولدون، ويترك بعضهم، لافتا إلى أن الحج على المطايا ظل هو الوسيلة الوحيدة لأبناء قطر حتى بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، من الدوحة إلى سلوى إلى الهفوف، ثم الأحساء، ثم الرياض، ثم مكة، والعودة من الطريق نفسه. وأجمع الباحثان محمد همام فكري وعلي الفياض على أن تكلفة رحلة الحج بالسيارات خلال أربعينيات القرن الماضي كانت حوالي مائة ريال تقريبا، ويقوم صاحب السيارة بأخذ الحجاج في سيارة تسمى لوري "Laurie"، وعادة تكون من طابقين، حيث يخصص الطابق الأعلى للرجال ويتخذ النساء الطابق الأسفل. وفي الستينيات من القرن الماضي، كانت أن السيارات تقطع المسافة بين الرياض إلى بلاد الحجاز في مدة ثلاثة أيام، وربما أكثر، حسب وعورة الطريق أو سهولته حيث تتعرض بعض السيارات للأعطال. وفي هذا الصدد، ذكر الباحث التراثي علي الفياض أن /حملة ابن جلمود/ تعد من أقدم حملات حجاج قطر في الدوحة، وكانت تنطلق من قلعة الكوت إلى حدود سلوى بجمال الحملة، الموسومة لصاحب الحملة، وكان الوصول إلى الأحساء يستغرق سبعة أيام، ثم تستبدل الجمال وتبدأ استراحة الحجاج، ثم يواصلون السفر إلى الرياض ثم إلى الطائف ومكة. وأضاف: "منذ سنة 1368هـ/1949م، وبعد تصدير أول شحنة نفط من أرض قطر، بدأ استخدام السيارات في قطر، وكانت في البداية تستخدم الشاحنات لنقل الحجاج، ثم استخدمت الحافلات بعد ذلك، وقد تطور السفر للحج عن طريق السيارات، وأصبح مريحا ومأمونا ولا يستغرق أكثر من يومين فقط". وتابع: "كانت /حملة محمد بن طرجم السهلي/ من أهل الأحساء هي أول حملة لنقل الحجاج، وكانت تكاليف السفر في عهد الحج بالقوافل لا تتعدى عشرين ريالا من الفضة أو مائة روبية من المعدن، ومنذ ظهور السيارات بدأ عدد الحجاج في الزيادة بشكل مضطرد، وكذلك زادت تكاليف السفر إلى الحج إلى آلاف الريالات". وعن خدمات حملات الحج القطرية (القرن العشرين) قال فكري: كان الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني أمير قطر في الفترة من 1949 - 1960م أول من فتح مراكز للحجاج، فأقام في طرف الدوحة مكانا لتجمع الحجاج قبل ذهابهم، وكذلك أقام في طريقهم ما يحتاجونه من مساجد وخدمات كثيرة، وكان يشرف عليها الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري -رحمه الله- وغيره من المشايخ. ومنذ عام 1957 كانت دائرة الخدمات الطبية والصحة العامة القطرية ترسل بعثة طبية إلى الأراضي المقدسة أثناء موسم الحج كل عام، لتشارك بقية الدول الإسلامية مجهودها في توفير الرعاية الطبية الكاملة لحجاج بيت الله الحرام، وتعمل البعثة في مكة المكرمة، حيث توجد لها عيادتان، وفي المدينة المنورة، حيث توجد لها عيادة، وفي "منى وعرفات"، حيث يوجد لها مركز طبي في كل منهما، وتقوم البعثة بالكشف على الحجاج من جميع أنحاء العالم، وتصرف لهم الأدوية.
من جهته، ذكر الدكتور علي عفيفي علي غازي، الكاتب والباحث في التاريخ، في تصريح لوكالة الأنباء القطرية /قنا/، أنه منذ ثلاثينيات القرن العشرين استخدم القطريون السيارات برفقة حملات أو قوافل الحج، وكان ماجد بن سعيد البوكوارة أول من ذهب للحج بالسيارة من نوع البيك أب. ولم يكتف الحجاج القطريون بالذهاب لأداء فريضة الحج برا، بل إنهم سافروا عبر البحر وركبوا أهواله.. يقول محمد همام فكري: "في حالات افتقاد الأمن في الطريق البري لسبب أو لآخر، كان أهل الخليج يحجون عن طريق البحر في بواخر، تبحر إلى بومباي ثم جدة مرورا بأبو شهر والبحرين وقطر ودبي وبندر عباس ومسقط وكراتشي، ومدة الرحلة إلى بومباي عشرة أيام، ثم الإقامة أكثر من أسبوع بانتظار السفن المغادرة إلى ميناء جدة، والتي تمر بطريقها بعمان ثم المكلا وعدن وبربرة في الساحل الإفريقي، وأخيرا تصل إلى جدة، وكثيرا ما يحصل لهم غثيان وأمراض لم يعرفوها من قبل. وعن استعداد حجاج بيت الله الحرام القطريين، قال الباحثون: إن أهل قطر كانوا يستعدون لموسم الحج مع قدوم شهر رمضان كل عام. وفي هذا الصدد، ينقل محمد همام فكري عن أحد الحجاج القطريين الطاعنين في السن بعض أجواء رمضان بقوله:" فإذا ما حل شهر رمضان المبارك زاد الكرم، وكثرت الصدقات، وعمت الفرحة الجميع، وفتحت المجالس، ومدت موائد الإفطار العامرة تستقبل كل فقير ومحتاج بصدر رحب، ووزعت المأكولات على الفقراء، أما ليالي الشهر المبارك فإنها تقام بذكر الله من صلاة وقراءة قرآن، إذ يجتمع الناس في مجلس أحدهم لتلاوة القرآن وختمه، حتى إذا ما حلت ليلة العيد كان القرآن قد ختم ونال صاحب البيت ثوابا لفتحه باب بيته لهم كالمسجد، ونال الحاضرون أجرهم لاستماعهم لكتاب الله.. وحين يتمون الشهر يكون ذلك إيذانا لمن عزم على تأدية فريضة الحج أن يتأهب له، فتكثر زيارات الأهل والأقارب، ويحرص كبار السن على كتابة وصاياهم، ويستودعون أهلهم عند الله، فالأعمار بيد الله، ويخشون ألا يعودون". في حين أشار الفياض إلى أن الحجاج كانوا يستعدون منذ وقت مبكر، ويجهزون ملابس الحج المكونة من الإحرام بالنسبة للرجال، وملابس النساء (الدراريع) المصبوغة باللون الأخضر في رحلة تستغرق من 3 إلى 4 شهور ذهابا وعودة، وكانوا يتزودون بالمؤونة، والماء بكميات بسيطة، وخلال رحيلهم يمرون بالمدن والبلدات النجدية، ويتزودون بالمياه من الآبار في طريقهم. ولفت إلى أن عدد الحجاج كان قليلا جدا، وكانوا يتوجهون إلى مكة لأداء مناسك الحج، ثم يتوجهون بعد ذلك إلى المدينة المنورة للقيام بزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم. أما علي عفيفي، فأوضح أن قوافل الحج كانت تتجمع سواء في بغداد أو إسطنبول أو القاهرة، إذ عرف التاريخ الإسلامي درب زبيدة الذي يربط بغداد بالحجاز، ودرب الحج الشامي الذي ينطلق من إسطنبول مرورا بمدن الشام، ودرب الحج المصري الذي جمع حجاج المغرب العربي انطلاقا من القاهرة، وكان هناك درب حج آخر عرف بدرب حج البحرين، كان يجمع حجاج منطقة الخليج العربي. ولفت الباحثون إلى أن بعثات الحج القطرية عرفت تطورا عبر السنين، وبينوا أن قطر عملت بكل ما في وسعها للعمل على راحة الحجاج، حيث في سبعينيات القرن الماضي، تم تنظيم عمل المقاولين (أصحاب الحملات)، وقامت البعثة في السبعينيات بنظام جديد يتعلق بشؤون الحج وتوحيد أسعار المقاولين، ثم تسجيل الحجاج في مقر البعثة، كما عملت على تجهيز السكن من قبل المقاول بالماء والكهرباء، وأن تتوافر مراوح، وأن يكون المبنى سليما وصحيا ومناسبا، وأن يكون به أكثر من دورة مياه، كما اشترطت على المقاولين أيضا رفع علم قطر على كل سكن الحجاج القطريين، مما يسهل عليهم التزاور للاطمئنان على بعضهم البعض.