الأزمة الأوكرانية وسلاسل الإمداد.. السيناريو الأسوأ لم يحدث بعد
Al Sharq
تسبب التصعيد العسكري الروسي في أوكرانيا، في تفاقم مشكلات بسلاسل التوريد العالمية المضطربة فعاليا، وأدَّت العمليات العسكرية إلى إغلاق مصانع سيارات و تكنولوجيا
تسبب التصعيد العسكري الروسي في أوكرانيا، في تفاقم مشكلات بسلاسل التوريد العالمية المضطربة فعاليا، وأدَّت العمليات العسكرية إلى إغلاق مصانع سيارات و تكنولوجيا وأشباه الموصلات في أوروبا، تعتمد على مكونات مصنوعة في أوكرانيا، كما أضرّ بإمدادات صناعة الصلب في العديد من دول العالم، في مقدمتها اليابان. وأدى التصعيد العسكري أيضا إلى زيادة الصادرات السلعية الضخمة لأوكرانيا وروسيا، مما أسفر عن ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي والقمح وزيت عباد الشمس. وتوقف الشحن من الموانئ الأوكرانية، التي تعد ممرا مهما لشحنات الحبوب والمعادن والنفط الروسي إلى بقية العالم. وحذرت شركات الشحن وشركات الطيران من أن قرار عديد من الدول الأوروبية إغلاق مجالها الجوي في وجه روسيا سيزيد تكلفة نقل البضائع من أوروبا إلى آسيا، مما قد يجعل بعض الطرق غير مجدية تجارياً. كما ستؤدي العقوبات الغربية، وخاصة حظر بعض البنوك الروسية من نظام الدفع المالي العالمي السريع /سويفت/، إلى زيادة مصاعب الشركات في إجراء أي نوع من التجارة مع موسكو حتى في القطاعات التي لا تخضع للعقوبات. ويخشى الاقتصاديون وقادة الأعمال من أن يؤثر ذلك على سلاسل التوريد التي تعتمد على المكونات والسلع غير المعروفة من روسيا، مثل غاز النيون والبلاديوم، وهي مكونات مهمة لصنع أشباه الموصلات. وأجمع خبراء على أن إصدار الولايات المتحدة وحلفائها عقوبات على روسيا سيكون له تأثير مدوٍّ ليس فقط على موسكو، ولكن على العالم بأسره"، في المقابل يعتقد سياسيون وخبراء غربيون في هذا المجال أنه فيما سيكون هناك تأثير على اقتصاداتهم، فإن العقوبات ستمنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من التصعيد في أماكن أخرى. وأدت العزلة الروسية المتواصلة إلى خنق إمدادات العالم من مصدر رئيسي للبترول والمعادن والمحاصيل، مما يزيد من حدة معدل التضخم العالمي في وقت كانت الاقتصاديات الكبرى والناشئة على حد سواء تنتظر عام 2022 للتعافي من آثار من فيروس كورونا وتداعياته الاقتصادية السلبية التي خلفها ولازالت على مدار ثلاثة أعوام . فمع كل يوم يمر في الأزمة الروسية الأوكرانية، تواجه الأسواق والشركات والتجار المجهول في ظل عدم القدرة على تأمين صفقاتهم، نظرا للعقوبات الاقتصادية الموقعة على القطاع المصرفي الروسي وعلى من يتعامل معه. ومن المتوقع أن تبلغ خسائر الاقتصاد العالمي نتيجة التصعيد الروسي المستمر في أوكرانيا نحو تريليون دولار، وفقا للمعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في المملكة المتحدة، والذي أكد أن هذه الخسارة ستسهم في زيادة التضخم العالمي بنسبة 3 بالمائة خلال العام الجاري، من خلال إطلاق أزمة أخرى في سلاسل التوريد. وكشف المعهد أن مشكلات العرض ستؤدي إلى تباطؤ النمو وصعود الأسعار، وهو ما سيقلل مستوى الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو نقطة مئوية واحدة مع حلول 2023. وتثير العقوبات المتزايدة التي تفرضها الدول الغربية على روسيا مخاوف من توقف الصادرات الروسية من النفط والغاز، الأمر الذي ينعكس ارتفاعاً في الأسعار. وتشكّل الإمدادات الروسية حوالي 40 بالمائة من حاجة أوروبا من الغاز، فيما يتجه نحو 2.3 مليون برميل من الخام الروسي غرباً كل يوم عبر شبكة من خطوط الأنابيب. ورغم أن العقوبات الأمريكية لم تشمل قطاع الطاقة الروسي حتى الآن، لكن يبقى الأمر مطروحا على الطاولة ورهن التقييم. وقد استبعد السيد توني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي في تصريح له فرض عقوبات على الخام الروسي وقال بعد محادثات في بروكسل عندما سئل عن عقوبات الطاقة "لا شيء مطروحا على الطاولة". وأضاف الوزير أن تنفيذ العقوبات أو زيادتها يخضع لإعادة التقييم يوميا. أما السيدة جين ساكي المتحدثة باسم البيت الأبيض فقد كشفت عن عملية تقييم تتم لخيارات تقليل الولايات المتحدة استخداماتها من الطاقة الروسية، وأرجعت ذلك إلى حرص إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لتقليل تأثير الوضع في أوكرانيا على العائلات الأمريكية. وذكرت أنه إذا انخفض العرض في السوق العالمية، فإن أسعار الغاز والنفط سترتفع، مبينة أن بايدن يضع ذلك في الاعتبار، وأن الهدف من ذلك هو الإبقاء على تأثير العقوبات المفروضة على روسيا على الأمريكيين أقل ما يمكن. وتشكل الواردات الروسية ما يقرب من 5 بالمائة من جميع واردات الولايات المتحدة من مصادر الطاقة.
وبعد مرور 10 أيام على التصعيد العسكري الروسي في أوكرانيا، أغلقت مؤشرات أسواق العالم للسلع الرئيسية مع نهاية أسبوع التعاملات عند مستويات مرتفعة، وفي بعضها مستويات غير مسبوقة. فقد قفزت أسعار النفط الخام سبعة في المئة في جلسة شهدت تقلبات، إذ تغلبت المخاوف من تعطل صادرات النفط الروسية بسبب العقوبات الغربية على أثر توقعات بزيادة إمدادات الخام الإيرانية في حال إبرام واشنطن اتفاقا نوويا مع طهران. وقفزت أسعار الخام أكثر من 20 بالمائة منذ أن فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها عقوبات على روسيا في أعقاب غزوها لأوكرانيا في 24 من فبراير. واضطربت مبيعات النفط الروسية، حيث يواجه البائعون صعوبة في إبرام صفقات حتى برغم عرضهم خصومات كبيرة على أسعار خام برنت القياسي. وقفز سعر خام برنت 7.65 دولار أو 6.9 بالمائة عند التسوية إلى 118.11 دولار للبرميل. وزاد خام غرب تكساس الوسيط الأمريكي 8.01 دولار أو 7.4 بالمائة إلى 115.68 دولار للبرميل عند التسوية. كان ذلك أعلى مستوى إغلاق لبرنت منذ فبراير 2013، والأعلى للخام الأمريكي منذ سبتمبر 2008. كما ارتفع الغاز الطبيعي، حيث وصل مؤشر /تي تي إف/ الهولندي المرجعي في أوروبا إلى 199,990 يورو لكل ميغاوات في الساعة، وهو أعلى مستوى له على الإطلاق.. ويستورد الاتحاد الأوروبي أكثر من 40 بالمئة من احتياجات الغاز السنوية من روسيا. ارتفاع أسعار النفط الذي يمكن تفسيره بالحرب في أوكرانيا إضافة إلى علاوة المخاطر المفروضة على العرض النفطي الآتي من روسيا، تفاقم بسبب حالة عدم اليقين والتعديل في عمليات المضاربة، وفي حين لم تصل العقوبات الغربية إلى حد منع الصادرات الروسية، إلا أن عرض الخام والمواد النفطية من روسيا قد تضرر كثيرا، لا سيما بسبب أن العقوبات المالية التي تجعل من المستحيل القيام بعمليات شراء نفط مع روسيا. ويرى البعض أن الشركات الغربية عاقبت نفسها بتوقفها عن شراء النفط الروسي، وصارت تفضل البحث عن حلول أخرى لأن خطر فرض عقوبات يرتفع توازيا مع ارتفاع حدة الحرب في أوكرانيا، ومن المعروف أن سحب الاستثمارات والحد من الاعتماد على النفط الروسي، سيسهلان على الغرب فرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسي، في حال لم تردع العقوبات الهجوم الروسي. ومن البترول والغاز، إلى الخبز يظهر مدى تأثير العملية العسكرية الدائرة في أوكرانيا على مائدة المواطن العادي في الدول التي تعتمد على واردات القمح القادمة من مناطق العمليات العسكرية في أوكرانيا . وسجلت أسعار القمح أعلى مستوى لها منذ عام 2008، في ظل المخاوف المتصاعدة من حدوث نقص عالمي في الإمدادات بسبب التصعيد العسكري الروسي في أوكرانيا، مما منع كييف من تسليم أكثر من 25 بالمائة من صادرات المحصول. وأشار خبراء بالسوق العالمي إلى أن أسعار القمح في سبيلها لتسجل ارتفاع قياسي بنسبة 40 بالمائة، وهو أعلى مستوى منذ بدء التصعيد العسكري الروسي، وقيام الولايات المتحدة وأوروبا بفرض عقوبات شاملة على موسكو. وتهدد الاشتباكات المستمرة بين القوات الروسية والأوكرانية زراعة المحاصيل خلال الأشهر المقبلة. وتوقفت تجارة القمح مع روسيا إلى حد كبير، حيث يجد المشترون صعوبة في التغلب على العقوبات الغربية المعقدة التي فرضها الغرب على موسكو، ورفضهم دفع تكاليف مرتفعة مقابل عمليات التأمين والشحن. وتتجه الصين، وهي أكبر مستورد في العالم للذرة وفول الصويا والقمح، إلى تأمين إمداداتها الأساسية عبر الأسواق العالمية، مما يدفع الأسعار إلى الارتفاع. وقفرت أسعار العقود الآجلة للقمح إلى أقصى حد لها في بورصة شيكاغو، وتشير التوقعات إلى أن أسعار القمح ستسجل مزيدا من الارتفاع، مما يزيد الضغوط على التضخم في أسعار المواد الغذائية، ويعمق معضلة محافظي البنوك المركزية بشأن مدى رفع أسعار الفائدة في وقت تضر فيه الحرب والعقوبات النمو وتلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي لفترة طويلة قادمة. وفي مجال المحاصيل الزراعية، تنتج روسيا وأوكرانيا مجتمعتيْن ما يقرب من ثلث صادرات القمح في العالم، و 19 بالمائة من صادرات الذرة و80 بالمائة من زيت عباد الشمس في العالم، ويتدفق كثير من ذلك عبر موانئ البحر الأسود المغلقة حالياً. ويثير ارتفاع أسعار الحبوب مخاوف دول العالم النامي، مثل مصر وإندونيسيا، التي تستورد كميات كبيرة من القمح من موسكو وكييف. وفي أسواق المعادن فهي الأخرى في عين العاصفة فقد ارتفع بداية هذا الأسبوع مؤشر /LMEX/ للمعادن، إلى مستوى قياسي، وارتفع الألمنيوم، أحد أكثر المعادن المتعطشة للطاقة، ويقترب النحاس من أعلى مستوى له على الإطلاق. لكن خام التيتانيوم والذي يعد كلمة السر في تصنيع محركات الطائرات، وروسيا هي المورد الرئيسي له فقد خلق التصعيد العسكري كابوسا لصناع الطائرات حول العالم . ويواجه عمالقة صناعة محركات الطائرات /إيرباص/ و/بوينغ/ تحديا حقيقيا في الحصول على مشترياتهم من روسيا في ظل العقوبات على القطاع المالي هناك . ومن الممكن أن يسفر العجز عن توفير التيتانيوم عن تفاقم مشكلات في سلاسل التوريد الحالية التي تمثل تهديداً لزيادة الإنتاج لكل من صنّاع الطائرات الكبار للخطر. فيما قفز سعر البلاديوم بنهاية تعاملات الأسبوع متجاوزا 3000 دولار للأوقية (الأونصة)، للمرة الأولى منذ مايو 2021 مع تنامي المخاوف من نقص الإمدادات من روسيا، المُصدر الرئيسي للمعدن، في حين دعمت الحرب في أوكرانيا الطلب على الذهب كملاذ آمن. وزاد البلاديوم 8.4 بالمائة إلى 3008.74 دولار للأوقية. وتنتج روسيا 40 بالمائة من الإنتاج العالمي من المعدن المستخدم في صناعة السيارات والذي سجل زيادة بنسبة 25 بالمائة خلال أسبوع، وهو أفضل مستوياته منذ نهاية مارس 2020. وقفز الذهب في المعاملات الفورية 1.6 بالمائة إلى 1965.97 دولار للأوقية، لتبلغ مكاسبه هذا الأسبوع حوالي أربعة بالمائة. وزادت العقود الأمريكية الآجلة للذهب 1.6 بالمائة عند التسوية إلى 1966.6 دولار للأوقية. وارتفعت الفضة 2 بالمائة في المعاملات الفورية إلى 25.67 دولار للأوقية وسجلت خامس زيادة أسبوعية على التوالي. وصعد البلاتين 3.4 بالمائة إلى 1117.06 دولار للأوقية. كما واصلت أسعار المواد الخام الأخرى التي تعتبر روسيا منتجا رئيسيا لها ارتفاعها المحموم، حيث وصل الألمنيوم والفحم إلى مستويات قياسية جديدة، فقد سجل سعر طن النيكل في سوق المعادن الأساسية بلندن ارتفاع تاريخي، ليصل إلى 27976 دولارا للطن وهو سعر قياسي لم يسجل من 11 عاما. كما سجل مؤشر بورصة لندن للمعادن، وهو مؤشر يتضمن أسعار الألومنيوم والنحاس والرصاص والنيكل والقصدير والزنك المتداولة في بورصة لندن للمعادن، أعلى مستوى تاريخي له عند 5046.7 نقطة، بارتفاع يزيد عن 30 بالمائة على مدار عام واحد. وعلى الرغم من الاضطرابات التي تشهدها سلاسل الإمدادات الرئيسية في العالم، إلا أنه يصعب على المحليين تحديد حجم الخسائر التي قد يتعرض لها العالم نتيجة استمرار التصعيد العسكري الروسي، حيث يتفق كثير من المحللين على أنه من السابق لأوانه معرفة مدى تأثير الحرب على سلاسل التوريد، خاصة وأن آثار الحرب والعقوبات لا تزال غير واضحة، وإن عديداً من الشركات يمكن أن تعتمد على مخزونات من قطع الغيار والمواد الخام في مخازنها، كما أن القمح الأوكراني يُصدَّر بعد الحصاد الذي سيبدأ في أغسطس. فصناعة السيارات، التي اعتمدت منذ فترة طويلة على سلاسل التوريد الممتدة عبر الحدود، من أولى القطاعات التي شعرت بتأثير الأزمة الأوكرانية، فقد أغلقت شركة ليوني إيه جي، التي تصنع أنظمة الأسلاك المستخدمة في صناعة السيارات، مصنعيْها في أوكرانيا، وأعادت حوالي 7000 موظف إلى بلادهم. كما أعلنت شركة "فولكس فاجن إيه جي" إنها لم تعد قادرة على إنتاج أنظمة الأسلاك في أوكرانيا وسيتعين عليها إيقاف إنتاج السيارات في مصنعها في تسفيكاو في شرق ألمانيا. وأخيرا، الأسواق العالمية تعيش حاليا على صفيح ساخن، ودخلت متاهة غير معلومة المخرج، والسيناريو الأسوأ لم يحدث بعد، فهناك احتمالات قوية بحصول انسداد في شريان سلاسل الإمدادات لبعض المناطق، خاصة القمح وبعض المعادن الرئيسية والمهمة لصناعات ذات رؤوس أموال ضخمة مثل السيارات والطائرات، فضلا على السلعة الرئيسية محل مخاوف العالم أجمع.. إلا وهي النفط والغاز.